تُعد مملكة موريطنة كما يزعم جزءًا أساسيًا من التاريخ القديم لشمال إفريقيا، وقد ازدهرت في الفترة الكلاسيكية كجسر ثقافي وحضاري بين إفريقيا وأوروبا. تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على الحقائق التاريخية المتعلقة بالمملكة خاصة شعبها لفهم أصوله وشكله وحضارته، وتصحيح الخرافات الشائعة التي تحيط به. وذالك من خلال تحليل المصادر التاريخية المعاصرة ودلائل الآثار القديمة .
أولا : أصول شعب مملكة موريطنة (الموريون)
من خلال دراسة النصوص الإغريقية والرومانية ودلائل الآثار الباقية، نخلص إلى أن الموريون أو المافريون أو الموروسي أو المورفيج هو شعب 《أسيوي》 الأصول وليس بشعب محلي إطلاقا، وسنتناول هنا أقوال المؤرخين القدامى بشكل تسلسلي :
● يقول المؤرخ اليوناني سترابون (64 ق. م) الذي عاين بلاد المور ولغتهم وطبائعهم أثناء هجرته لإفريقيا عن أصلهم : “موري أو موروسي أناس كثيرون وأثرياء وهم هنود جاءوا مع هرقل“. وبالتالي فهو يربط أصلهم بأسيا وليس إفريقيا .
● يقول المؤرخ الروماني وحاكم أفريقيا ساللوستيوس (86م) في كتابه 《الحروب اليوغرطية》، عن أصل الموروسي في معرض حديثه عن الميديين والأرمينيين في شمال إفريقيا : “وبمرور الوقت غير الليبيون اسم هذه الشعوب و دعوهم في اللغة البربرية أي الأجنبية ، (المافري، الماوري، الموريين Mauri) ، بدلا من الميديين«Medi» “.
إقرأ أيضا:المسلم المعاصر بين التطوير الذاتي و التزكية الروحية الشاملة.والميديين هم أحد الأقوام التي استوطنت مناطق جبال زاكروس قرب بلاد الشام قديما ويرجع أصلهم إلى الشعوب الأسيوية القديمة، وهو ما يتطابق مع ما قاله سترابون قبله. وما يميز سالوست، أنه كان حاكما في إفريقيا يعلم شعوبها وما يقولونه عن أصولهم كما كان متقنا للبونيقية مما جعله يترجم كتبا محلية كتبها سكان المنطقة لعل أهمها كتب (Hiempsal) هيمبسال التي صرح أنه قام بترجمتها والنقل منها . (راجع كتاب سالوست هنا)
● يقول عالم ومؤرخ الزمن القديم بروكوبيوس القيسراني (500 – 560 للميلاد)، الذي كتب حرب بيليساريوس ضد الفاندال الذين احتلوا إفريقيا، أنه قرأ النقش التالي المنقوش على أعمدة أقيمت في هذه الأماكن (طنجة، الشام) : {Nos Maurusii, qui fugimus a facie Jesu la- tronis filii Nave}، الذي يشير بوضوح إلى سبب فرارهم من سوريا “.
النقش باليونانية يقول :
Nos Mau- rusii, qui fugimus a facie Iesu latronis filii Nava.
والترجمة بالعربية : ” نحن الموروسي، الذين نهرب من وجه يسوع ابن نافا السارق” .
إقرأ أيضا:الإتحاديات القبلية الأوفر في الجنوب الشرقي المغربي: الروحة، ايت عطى، ولاد يحيىفيكون هذا دليل مادي صريح على أن الموروسي هم من بلاد أسيا وخاصة بلاد الشام مثل ما قال سالوست من قبل ؛ وهو نفس ما تأكد للعالم ميكيافيلي (Machiavelli) الذي صرح في كتابه القديم (..Il Principe, e Discorsi sopra la prima) : ” طردت الحرب الشعوب من ديارها وأجبرت على البحث عن أراض جديدة. أريد أن أذكر مثال الموروسي، الشعوب القديمة في سوريا الذين سمعوا الشعب اليهودي قادمًا، وحكموا على أنهم لا يستطيعون مقاومتهم، اعتقدوا أنه سيكون من الأفضل إنقاذ أنفسهم ومغادرة بلدهم بدلا من الحرب ؛ فاستيقظوا مع عائلاتهم، وذهبوا إلى إفريقيا، حيث استقروا، وطردوا أي سكان وجدوا في تلك الأماكن”.
من خلال جرد أقوال وتحقيقات كبار مؤرخي التاريخ القديم نخلص إلى أن الموروسي هم شعب وافد وليس بشعب أصلي في المنطقة الإفريقية ؛ وأن أصلهم يرجع عامة لأسيا وخاصة لبلاد الشام.
ثانيا : حالة هذا الشعب ولغتهم وشكلهم
سنعمل على تقسيم هذه الفقرة إلى ثلاث مسائل مختصرة وموجزة ؛
إقرأ أيضا:ثورة الخوارج في بلاد المغرب دراسة بناء على أقدم الحوليات العربية المتوفرة1 : مسألة بداوة الموروسي والبعد عن الحضارة
كان هؤلاء المورسوي شعب بدائي بدوي لا مدن ولا حضارة له يقول سترابون (64 قبل الميلاد) : ” ومع أن الشطر الأكبر من البلاد الذي يشغله الماوروسيون أرض خصيبة. إلا أن أكثر سكانه لايزال حتى يومنا هذه يعيش حياة البدو الرحل”.
ونفس الأمر أكده المؤرخ الروماني أبيان Appian (95م) قائلا : “الموروسي هم بدو رحل “.
كما صرح سالوست (86م) مؤكدا على بداوة الموروسي وبعدهم عن الحضارة قائلا : “حافظ موروسي على عادات الحياة البدوية حتى الآن “.
2 : مسألة شكل الموروسي وعلاقتهم بالأفارقة
نعلم أن الموروسي عندما وفدوا من بلاد الشام إختلطوا بسكان إفريقيا الأصليين وهم الليبيون والايثوبيون فأصبحوا أقرب للأفارقة شكلا وهذا ما أكده المؤرخون والرحالة الرومان الذين تلاقحوا وتعاملوا مع الموروسي ؛
يخبرنا الروماني سيليوس إيتاليكوس (20م) : “المور، مثل السود، وهم شعب ذو بشرة سوداء وسمراء، يسكنون منطقة موريتانيا بإفريقيا، ويطلق عليهم أيضًا اسم «الموروفيج» “.
قال الشاعر الروماني أولوس بيرسيوس فلاكوس (34م) ꞉ “عليك أن تشرب مياهًا أخرى: سيتم إعطاؤك أكوابًا من قبل الكاهن جيتولوس، أو من أيدي الموري السوداء “.
يقول دِسيموس يونيوس يوڤيناليس المعروف بإسم جوڤينال Juvenal في بعض اللغات الأوربية (40ـ102م) : “الموريون سريعون ؛ الموريون أغمق من الهنود “.
هذه الشواهد تؤكد بشكل يقيني أن المور كانو أفارقة سود مثلهم مثل الإيثوبيين.
3 : مسألة لغة سكان مملكة موريطنة
كان الموروسي يتكلمون البونيقية واليونانية كما أكد المؤرخون القدامى منهم أوغسطين وبروكبيوس القيسراني.
ثالثا : إنقراض المور
إن شعب المورسي سيتعرض لإبادة تدريجية بسبب الحروب مما سيؤدي لزوالهم وتعويضهم بشعوب أخرى، وهو ما أكده المؤرخ والجغرافي بليني الأكبر (Pliny the Elder) (20م)، في مجلده للتاريخ الطبيعي بحيث يذكر حول شعب المور في سياق كلامه عن مملكة موريطنة الطنجية :“ يبلغ طول مقاطعة تنجيتانا 170 ميلاً . من بين الأمم في هذه المقاطعة، كانت الرئيسية هي قبيلة الموري، وقد أطلق عليها العديد من الكتاب الموروسي. لقد أضعفت كوارث الحرب هذه الأمة إلى حد كبير ، وتضاءلت الآن في عدد قليل من العائلات فقط، وإنقرض الماسيسيل بنفس الطريقة وتحتل بلادهم الآن الأمم الغيتالية، والبانيورا، والأوتولول “. (راجع هنا)
رابعا : أصل تسمية موريطنة وإحتمالية الأصل السامي
إن تسمية موريطنة تعني باللاثينية بلاد السود وهو ما أكده الكاتب والشاعر الروماني Marcus Manilius في القرن الأول ميلادي قائلا ؛ 《موريتانيا تأخذ اسمها من وجهها وتظهر هويتها من خلال لونها 》.
” Mauretania nomen | oris habet titulumque suo fert ipsa colore ” .
أي أن الإسم لا علاقة له بالعرق وإنما هو مرتبط بوصف سكان المنطقة في ذاك الزمان الذين كانوا افارقة الشكل ؛ ونفس الأمر يؤكده لنا الروماني سيليوس إيتاليكوس (20م) وجوڤينال (40ـ102م) وغيرهم من المؤرخين القدامى الذين أسلفنا ذكرهم سابقا.
● إحتمالية الأصل السامي
ما أورده بروكبيوس القيسراني أنه قرأ نقشا عن سبب فرار الموروسي من الشام للمغرب يحيلنا على البحث في اللغات السامية لكشف إرتباطها بهذه التسمية علما أن بروكبيوس قال أن النقش فيه عبارة 《موروسي (Maurusii)》أي أنه إسم متداول من طرفهم أيضا .
وقد أشار كذالك القائد العسكري والمؤرخ الروماني أميانوس مارسيلينوس (Ammianus Marcellinus) في القرن الرابع ميلادي إلى أن هناك قبائل في الجزيرة العربية تسمى مور بحيث جاء في مذكراته وهو يتكلم عن الثورات ضد الرومان في مقاطعة نصيبين الرومانية (State Of Nisibis) شرق سوريا ؛ 《 وبينما كان يتم الضغط على كل ما هو ضروري داخل الأسوار، استمرت النيران وأعمدة الدخان في الظهور على الجانب الآخر من نهر دجلة، بالقرب من المدينة التي تسمى معسكر المور، وشيزر (توجد بسوريا) 》. (راجع المصدر هنا)
فكلمة مور هي كلمة سامية قديمة، وحسب الباحثين فإن هذه الكلمة تستمد أصلها من الصيغة (أمورو Amurru) وهي الصيغة الأكدية المسمارية، واذا ما تتبعناها عموماً في النصوص الشرقية القديمة فنجدها في الأكدية تطلق على الشعب الواقع غرب العراق، فتعني بذالك سكان الغرب أو مغاربة وهم الأموريين، وفي البابلية الاشورية تطلق اسماً للمنطقة الفينيقية ولجنوب سوريا الحالي وفي التوراة اسما للابن الرابع لكنعان بن حام بن نوح ولشعب غير اسرائيلي.
أما في النقوش المصرية فكانت تسمى (البقاع) بلبنان حالياً أمورو (أمورو Amurru) وكان البابليون القدامى يسمون البحر المتوسط بحر (أمور العظيم) كما وردت هذه اللفظة في رسائل تل العمارنة المكتشفة في مصر بصيغة (مات أموري) وهذه الرسائل عبارة عن لوحات مسمارية يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
ويرى بعض الباحثين أن التسمية أموري هي سومرية الأصل جاءت من كلمة ( مارتو) أو من (مار) – تو Mar-tu) ومعناها الغرب، والاموريون سموا بهذا الاسم لوقوعهم في الغرب منهم، ولعل الجنرال (دوماس) استمد رأيه السابق من هذه التسمية ومن مدلولها والمعروف ان الاسم (مارتو) كان يسمى به الاله الخاص بالأموريين.
ومهما يكن من أمر فان سكان بلاد الرافدين أطلقوا (أمورو) أو (مارتو) على القبائل الأمورية وعلى الغرب، ويذكر أحمد سوسه 《 بناء على معلومات اثرية》 ـ أن هذه القبائل كانت منتشرة في المنطقة الممتدة من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الفرات منذ الألف الخامسة أو الرابعة قبل الميلاد. (راجع باقي المعلومات عن التسمية هنا من الصفحة 356)
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الكلمة لازالت مستعملة بكثرة في بلدان العرب ففي الشام نجد 《جبل موريا》 بفلسطين، وفي اليمن 《وادي مور》وفي لبنان 《جبل موروس》 وغير ذالك كثير.