مقالات متنوعة

مذكرات باحث عن الحياة الجزء الثالث موت الأحباب : بين الذكرى والاغتراب

مقال كُتب على فترات زمنية منذ نهاية شهر رمضان المعظم.

ديباجة المقال :
رغم أني لا أملك رغبة في الكتابة في هذه الفترة بسبب ظروف خاصة صعبة أمر بها، جعلتني أختلي بنفسي برهة من الزمن حتى أستعيد عافيتي، لكن نزولا عند رغبة أحد الأصدقاء الأعزاء الذي طلب مني كتابة مقال في رثاء جدته التي وافتها المنية مؤخرا، ولأني أعرف تلك الجدة الطيبة بشكل شخصي فقد ارتأيت أن أكتب هذه
الكلمات رثاء لها، رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.

إنها الموت الشبح الذي يخيم على مخيلتنا ويحرمنا من النوم، فبين حين وحين يموت عزيز ويتطلب الأمر منك صبرا وجلدا، فالحياة تجعلك تتنفس الصعدا، كيف لا وهي دنيا من الدنو ومن علا فيها أوشك على السقوط بعد برهة وحين، فلا تظنن أننا نخاف على أحبتنا من إدبار الحياة عليهم، بل نخاف عليهم من إقبالها عليهم، فما أيسر الانزلاق في مواطن الفتن.
كيف تذكرتني؟
أيتها الجدة الحنون كيف أنساك وأنت من علمتني أن أكون بلسما حينما كان الجميع مرا علقما، أليست أنت من جمعتي الغالي والنفيس لذاك الحفيد البئيس! أليس هو من كان يهرول لمنزلك ليجالسك على انفراد فيستفيد من حكمة الأجداد، وكأني به غدا جاحظا أو زرياب! وهو يا جدتي لا يعرف الكلمة وفصل الخطاب، لا تصدقيه إنه يهرب من مشاغل الحياة فيختبئ عندك.
يمني النفس بالأمال يعليها وأعماله في أسفل سافيليها،ليت الجميع مثلك جدتي، طيبون ولا يكرهون الجميع، فالحب عملة نادرة في زمن الناس هذا وإن تغنى بها الشعراء والأدباء، فحب هذا الزمان كالجمرة الساخنة ما تلبث أن تنطفئ كليا، وتصبح أثرا بعد عين بعد أن تصل الذروة في وقت قصير.

إقرأ أيضا:إكتشاف العرب لأمريكا

بني أنا الآن تحت التراب، حينما تأتي للبلدة من المدينة التي تقطنها لا تنس أن تزور قبر جدتك وأن تترحم عليها وتأنس وحدتها، بالله عليه لا تبكي بني علي، كفكف دموعك فقد عشت ما كتب الله لي أن أعيش وما يؤلمني هو فراقك والأحبة، لكن الله لم يكتب الخلود لأحد من خلقه، بل كتب الفناء على كل من على الأرض، وأنا لا أشذ عن هذه القاعدة، إني الآن عند المليك المقتدر، فلا تخافن علي فقد عدت لموطني الأصلي، أما أنت بني فاحذر من السقوط في مواطن الشرور، فتضيع أخراك، فكر في مصيرك مصيرك فهو ما تنتهي رحلتك إليه في الدنيا، ولا تنس أبدا الذكريات الطيبة التي عشناها معا، حتى ولو كانت بسيطة فهي من تنسينا هموم الحياة.

غربة الروح
حينما يغادرون يتركون جرحا غائرا في أرواحنا، جرح لا يداويه الزمن مهما تحرك أو سكن، ويُصاب المرء بالغربة الروحية حتى وإن كان يسكن في المدينة المتخمة بالسكان،
وقد أكد هذه المسألة أحد الأدباء المصريين :
“هل فهمت الآن من كون عمر الإنسان لا يتجاوز الثمانين على الأغلب؟ لو عاش الإنسان مائتي عام لجن من فرط الحنين إلى أشياء لم يعد لها مكان..”
د. أحمد خالد توفيق
تغترب روحك فعلا حينما تحس بأنك وحيد وقد غادرك كل الأحبة، لهذا يطلب البعض الموت حينما يعلمون بمغادرة جميع أترابهم، فمن سيكون الرفيق ومن سيكون الصديق الذي يخفف معاناة الحياة! لا أنحاز أبدا للتيار التشاؤمي الذي يكره الحياة ويزدريها، ولكني أزهد نفسي فيها دائما وأدعو الله لنفسي بالثبات، فما أكثر من يزلون الخطى وهم يمضون نحو مصيرهم المحتوم، وإني أكتب دائما عن البسطاء من الناس الذين لا تخلد سيرهم بين الناس، ولكنهم معلومون عند رب الناس، فخذها نصيحة مشفق لا تكترثن للمديح والثناء من الغثاء، ولا تغتر بمنزلتك عند الناس فما أكثر ألوان الحرباء، والناس يبجلون قوي بالمال والنفود، ولا يعيرون اهتماما للطيبين مثل الجدة الحنون.
تذكر بني حينما تغترب روحك زر قبر جدتك واقرأ عليها مذكرات باحث عن الحياة،فهي كلمات قليلة كُتبت بعاطفة جياشة لتخلد ذكراي ، وداعا بني ولا تنسى أن توصي صديقك بالاستمرار في مذكراته، ليكتب دائما لأجل الحياة الطيبة، لأجل الحب الطاهر النقي، لأجل المشاعر النبيلة، لأجل القيم الجميلة التي تزين حياتكم الدنيا.

إقرأ أيضا:التركيبة السكانية في المجتمع الأندلسي
السابق
فتح الأندلس القصة الحقيقية بين المنطق والخرافة

اترك تعليقاً